جرت العادة في معظم دول العالم ان يقاس الاداء الاقتصادي بعدد من المؤشرات الكلية، من ضمن هذه المؤشرات نمو الناتج المحلي، البطالة، التضخم، الميزان التجاري وغيرها. الان اصبح مؤشر نمو الناتج المحلي الاهم الذي تحرص الدول على متابعته ونشره. المشكلة ان بعض الدول تعتبره معبرا عن وبديلا لمؤشرات الازدهار والرفاه وارتفاع مستوى المعيشة وتقدم المجتمع بابراز افضل مافيه. هذا التوجه شجعه التسابق بين الدول على تحقيق نمو اقتصادي مع العلم بان اي نمو لا يمكن ان يستمر الى الابد. كل جسم حي ينمو ثم يتوقف. بالنسبة للمجتمعات الانسانية من المفترض ان تسعى نحو نمو التقدم المعرفي والعلمي والرقي الاخلاقي والمؤسسي لتحقق تقدم وازدهار المجتمع.
ان مفاهيم مؤشرات الاداء الاقتصادي والتنمية الشاملة والتنمية الاقتصادية والتنمية المستدامة هي مفاهيم حديثة تبلورت نتيجة ادراك الترابط والتفاعل بين الانشطة البشرية وتاثيرها المتبادل على الاداء الاقتصادي والسلم الاجتماعي واهمية التعامل الشمولي مع اي تحسين لجودة الحياة وتقدم المجتمع.
بالرغم من هذا الادراك والاهتمام بالتنمية المستدامة الا ان قياس وتقييم الاداء الاقتصادي مايزال مرتهن بمؤشر نمو الناتج المحلي الاجمالي (GDP) الذي تركز الدول على نشره واعتباره المؤشر الاهم في تقييم سياسة الحكومات في ادارة الاقتصاد والدولة والمجتمع، وانه المؤشر المعبر عن التنمية والازدهار والتقدم الاجتماعي. تسود هذه الفكرة بالرغم من ان واضعي هذا المؤشر (وفق جوزيف ستيجلتز) لم يسعوا الى جعله المؤشر الاهم في قياس الاداء الاقتصادي، وعرفه الاقتصادي جون مينارد كينز (John Maynard Keynes) على انه مجموع الاستهلاك الخاص، الاستثمار، والانفاق الحكومي. اي انه ببساطة يقيس القيمة السوقية الإجمالية للسلع والخدمات النهائية المنتجة خلال عام في بلد ما.
بعد الحرب العالمية الثانية تقرر الاسراع في إنعاش الاقتصاد، في هذه الاجواء تم اعتبار النمو الاقتصادي على انه الطريق للرفاه الاقتصادي. تم استخدامه من قبل البنك الدولي وصندوق النقد لتقييم اقتصاديات الدول وتأهيلها للحصول على الدعم. استمر ذلك بالرغم من تحذيرات الاقتصاديين بخطورة هذا الاستخدام بما فيهم مؤسس المؤشر كوزنتس (Simon Kuznets).
الآن تستخدم الحكومات نسبة الزيادة في الناتج المحلي على انه نجاح للسياسات الاقتصادية والمالية والاجتماعية، وكذلك تعتبر الارتفاع في متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي (GDP Per capita) على انه تحسن في مستوى المعيشة وانه تقدما اجتماعيا عاما. ويعتبره البنك الدولي على انه الحل للفقر في العالم.
علينا ان ندرك ان هذا المؤشر لا يقيس الازدهار والتقدم، ولا يخبرنا من يستفيد من هذا النمو. يمكن مع ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي أن يرتفع دخل فئة صغيرة تؤدي الى عدم المساواة في الدخل، ويترك شريحة كبيرة من المجتمع تعاني الفقر والبطالة، وتتوقف أجور العامل العادي. كما انه لا يعكس تاثير النشاط الاقتصادي على تدمير البيئة ولا على عدم المساواة في المجتمع ولا مستوى نشاط وفاعلية العمل التطوعي والعمل المنزلي.
هذه الخلفية تقول ان الناتج المحلي وجد لغاية محددة وهي قياس حجم الاقتصاد والنشاط الاقتصادي، لكنه لا يعني ان هذا النشاط موجه في الاوجه المفيدة والداعمة للمواطن والمجتمع وجودة الحياة وتقدم المجتمع. فمثلا التلوث الذي يحدث جراء الصناعات يرفع الناتج المحلي الاجمالي مع انه يضر بالصحة. والاضرار بالصحة يعني نشاط اقتصاد اكبر في قطاع الخدمات الصحية، وارتفاع في نمو الناتج المحلي. كذلك كلما زاد استهلاكنا من المصادر والمخزون من الثروات زاد الناتج المحلي على حساب البيئة والاجيال القادمة ونضوب الثروات. وبالمثل كلما كثرت حوادث الطرق والسرقات وترويج المخدرات زاد الناتج المحلي الاجمالي، مع ان العمل التطوعي الذي يخدم المجتمع لا يظهر في الناتج المحلي.
ان ازدهار المجتمع يتم بارتفاع مستوى التعليم والصحة وجودة الحياة وقدرة المواطنين على المشاركة والانتاج والاستفادة من ثمار النمو. لذلك تحتاج الدول الى مؤشرات (بالاضافة الى الناتج المحلي) تبين كيف يتم توزيع الناتج والثروة والدخل ومن المستفيد ومقدار التفاوت في الدخل والثروة بين الاغنى في المجتمع والافقر. هذه المؤشرات تُستخدم في المجتمعات المتقدمة ويجري انتقاد التفاوت الكبير الذي حدث بعد الثمانينات في كثير من دول العالم واضراره على الافراد والمجتمعات الغنية والفقيرة على حد سواء.
تشير الادبيات الى ان الدول التي حافظت على تقليص الفوارق في الدخل والثروة كانت هي المجتمعات الاكثر ازدهارا وانخفضت فيها الامراض والوفيات ومعدل الجريمة والمخدرات وارتفع متوسط العمر. النتيجة ان حققت هذه الدول ارتفاعا في رأس المال البشري والاجتماعي وتحسين النسيج الاجتماعي وزيادة العمل التطوعي. اي ان توزيع الدخل العادل لتحقيق مستوى من المساواة والعدالة الاجتماعية هو المؤشر الاهم وهو الذي يجب ان تهتم به الحكومات العربية كمؤشر لنجاحها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. وهو ما سيحقق الامن والاستقرار. وعلى الانظمة السياسية العربية بصفة خاصة والمجتمعات ومنظماتها المدنية ان تدرك ان الامن والاستقرار هو نتيجة لهذه السياسات. تحقيق ذلك يحتاج الى طرح السؤال ماذا يعني تقدم وازدهار المجتمع. كيف يتحقق ليُبرز افضل عطاء للمواطن ولمؤسسات المجتمع واجهزة الدولة.