يكتسب سؤال كيف لنا أن نبنى نموذجنا الحضارى ــ الثقافى القادر على التعامل بفاعلية مع الحضارات والثقافات الأخرى فى العالم وليس فقط مع الحضارة الغربية، شرط أن نؤمِّن ونحافظ على هويتنا وخصوصياتنا الثقافية والقيمية والحضارية أهمية كبيرة على ضوء كثافة الضغوط التى نتعرض لها نحن الأمة العربية الإسلامية من ضغوط غربية، أكثر من غيرنا من الأمم الأخرى، تستهدف تغييب وعى الأمة عن ثوابتها الدينية ومنظوماتها الثقافية والقيمية. أخطر هذه الضغوط ما تم عولمته، وجعله أحد مرتكزات ما أخذ يُعرف بـ «أيديولوجية العولمة»، ما يعنى إكسابه صفة العمومية من ناحية وصفة الإلزام من ناحية أخرى على الأمم والشعوب من أبرز نماذج هذه الضغوط ما يُعرف بوثيقة «اتفاقية سيداو» وهى وثيقة أمريكية، أو فلنقل غربية، اعتمدتها الأمم المتحدة، بضغوط أمريكية وأوروبية مكثفة، وأعطتها صفة «معاهدة دولية». هذه الوثيقة تتضمن ما جرى استحداثه من منظومات قيمية غربية تتجاوز الأديان والأعراف باعتبارها «أرقى تجليات الحرية» أو التحرر من كل ما يعتبرونه «قيوداً وإلتزامات دينية واجتماعية»، وهى فى مجملها تستهدف تدمير المجتمعات من خلال تفكيك الروابط الأسرية، كما تستهدف إشاعة الفحشاء والخروج عن الالتزامات الدينية.فمن ناحية الخروج عن الالتزامات الدينية تؤكد هذه الوثيقة المساواة بين المرأة والرجل وعلى الأخص فى الميراث ، وتبيح للمرأة ما يسمونه «حق الإجهاض» وتنفى وجود «عدَّة» للمرأة المطلقة، وتقول إن للمرأة «أن ترتبط بمن تشاء وتنفصل متى تشاء، لكن ما هو أخطر أنها تقول بأن «الرجل يمكنه الزواج برجل مثله، والمرأة يمكنها الزواج من امرأة مثلها»، وأنها لا تحرم العلاقات الجنسية خارج إطار العلاقة الزوجية لكلا الزوجين.
أما من ناحية تدمير وتفكيك الروابط الأسرية والمجتمعية ، فهى تطالب بأن ينسب الأولاد لأمهاتهم فى التسمية، وتطالب بإلغاء أى ولاية للرجل على زوجته ، وإلغاء أى ولاية للأب على بناته. بعض المفكرين والكتاب المرموقين فى الغرب أدركوا القوة التدميرية لمثل هذه الأفكار والقيم الغربية المستحدثة لمجتمعاتهم ، واعتبروها مسئولة بقدر كبير عن حالة «الاضمحلال التى تتهدد الغرب الآن» وأخذوا يحذرون منها ويطالبون بالتصدى لها، على نحو ما ورد فى المؤلف شديد الأهمية للكاتب «باتريك بوكنان» المفكر الأمريكى المعروف والذى حمل اسم «موت الغرب». فى كتاب «موت الغرب» يتساءل مؤلفه باتريك بوكنان عن أسباب توقف أمم الغرب فى أمريكا وأوروبا عن النمو، ويجيب بأن السبب «يكمن فى النتائج المميتة لهذه الثقافة الجديدة فى الغرب، والموت الأخلاقى الذى جرته هذه الثقافة على الغربيين». ويشرح ذلك باستفاضة بقوله إن السبب الرئيسى يرجع إلي: «انهيار القيمة الأساسية الأولى فى المجتمع (وهى الأسرة)، وانحسار الأعراف الأخلاقية الدينية التى كانت فيما مضى تشكل سداً فى وجه منع الإجهاض والعلاقات الجنسية خارج إطار المؤسسة الزوجية، إضافة إلى تبرير وتشجيع العلاقات الشاذة المنحرفة بين أبناء الجنس الواحد». فى ظل تدمير العلاقات الأسرية وإباحة العلاقات الجنسية الشاذة، سواء خارج رباط الزوجية، أو «الزواج المثلي» تفاقمت معدلات ارتفاع عمليات الإجهاض من 6000 حالة سنوياً عام 1966 فى الولايات المتحدة إلى 600 ألف حالة عام 1976، ووصل الرقم الآن إلى ما يزيد على المليون ونصف المليون حالة إجهاض فى العام، كما تفاقمت أعداد الأطفال غير الشرعيين ووصلت الآن إلى 25% من الأطفال فى الولايات المتحدة ، ويعيش حالياً ثلثا أطفال أمريكا فى منازل دون أحد الأبوين، إما بدون أب وهو الغالب وإما بدون أم، وزاد على ذلك زيادة أعداد المنتحرين بين المراهقين الأمريكيين ثلاثة أضعاف ما كانت عليه عام 1960، وبلغ عدد مدمنى المخدرات (وليس فقط المتعاطين) أكثر من ستة ملايين شخص فى الولايات المتحدة وحدها، والتناقض الحاد فى أعداد الشبان والشابات الراغبين فى الزواج.
هكذا تموت المجتمعات، فأين نحن من هذه التطورات الخطيرة؟ هل سيكون الرضوخ والانحناء إلى مثل هذه القيم المستحدثة التى يروجون لها فى الغرب، ومن على منصة الأمم المتحدة بأنها من مكونات «أيديولوجية العولمة»؟
السؤال يفترض وعياً مجتمعياً وليس مجرد انتظار قرارات إدارية، وذلك بأن تبادر الهيئات والمنظمات الأهلية خاصة ما لها علاقة بالتنشئة الاجتماعية والتربوية والثقافية ليس فقط بالتصدى لهذا النوع من الغزو الثقافي- الاجتماعى بكل ما يمثله من «انحطاط» أخلاقى وقيمى، ناهيك عن صدامه المباشر بمعتقداتنا الدينية، بل وبالتمسك بقيمنا وأخلاقياتنا وخصوصياتنا الثقافية والأخلاقية والدينية والتباهى والتفاخر بها أمام أنفسنا أولاً وأمام الأمم الأخرى ثانياً. من بين أبرز المبادرات بهذا الخصوص ما يقوم به «تجمع الوحدة الوطنية» فى مملكة البحرين، وهو أحد أبرز منظمات المجتمع المدنى، من مبادرة جريئة ومحمودة للتصدى لذلك الغزو الثقافى بإطلاق مبادرة ابتداءً من أول سبتمبر الحالى تحت عنوان «فطرة البحرين» قوامها التمسك بالفطرة التى فطر الله الناس عليها وأنه «لا تبديل لخلق الله»، بهدف حماية الأطفال والناشئة من الغزو الثقافى، والتصدى على وجه الخصوص لمحاولات «تسويق الشذوذ الجنسى» فى مجتمعاتنا العربية.
الحملة التى ينظمها تجمع الوحدة الوطنية البحرينى تعمل من أجل نشر الوعى بين الناشئة حول قضية الشذوذ من خلال التواصل مع المؤسسات التعليمية والتربوية، وتنسيق الجهود مع مؤسسات المجتمع المختلفة من أجل القضاء على هذه الظاهرة، واستنهاض المؤسسات الرسمية لإعداد برامج وقائية وعلاجية ، وتوعية أولياء الأمور حول كيفية التعامل مع الأبناء فى حالة رصد أى تغيرات سلوكية شاذة. مبادرة «فطرة البحرين»، ليست فقط مبادرة أخلاقية بل هى أيضاً نموذج رائد من المبادرات الأهلية الواجبة، باعتبارها ركيزة مهمة من ركائز التأسيس لنموذجنا الثقافى والحضارى. فهى تحدد عملياً منهاجية التفاعل العربى الإيجابى مع ما تصدره وتسعى إلى فرضه علينا المجتمعات الغربية من منطلق إعلاء شأن أنه: «لا هروب من المواجهة» و»لا تفريط فى هويتنا وقيمنا الحضارية والدينية».
بقلم: د. محمد السعيد إدريس
الثلاثاء 10 من صفر 1444 هــ 6 سبتمبر 2022 السنة 147 العدد 49582
مصدر المقال:
https://gate.ahram.org.eg/daily/News/869067.aspx